تحديات "كوين بيس"- بين هوامش الأرباح والمنافسة المتصاعدة

作者:"بلومبرغ"2025年08月21日
تحديات "كوين بيس"- بين هوامش الأرباح والمنافسة المتصاعدة

تُعتبر منصة "كوين بيس" (Coinbase)، الصاعدة كأحد أبرز الأسماء في عالم العملات الرقمية، على وشك أن تُتوَّج بلقب "السهم القيادي". ففي هذا العام، سطع نجم هذه المنصة وتمكنت من الانضمام إلى مؤشر "إس آند بي 500" المرموق، وشهدت قيمة أسهمها ارتفاعًا ملحوظًا في إحدى الفترات بنسبة 69%، مما أوصل قيمتها السوقية إلى مستوى قياسي بلغ 106 مليارات دولار.

إلا أن بريق هذا النجاح قد خفت بصورة غير متوقعة، إذ انخفض سهم الشركة بنسبة ملحوظة بلغت 17% خلال الأسبوع المنصرم، وذلك بعد الإعلان عن نتائج مالية لم ترقَ إلى مستوى التوقعات. وقد أثار هذا التراجع موجة من الشكوك والتساؤلات بين أوساط المحللين بشأن قدرة "كوين بيس" على الاستمرار في الاعتماد على قوتها التسعيرية للحفاظ على هوامش أرباحها المرتفعة، وذلك في ظل شراسة المنافسة من قبل منصات أخرى تسعى إلى تقديم خدمات مماثلة بتكاليف أقل.

لطالما أظهرت الشركة تحديًا واضحًا للتحذيرات المتزايدة من أن المنافسة المتنامية ستجبرها في النهاية على خفض رسومها، بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك، حيث قامت برفع الرسوم على بعض تداولات العملات المستقرة في شهر مارس الماضي. وفي المقابل، تسعى منصات أخرى، مثل "كراكن" (Kraken) و"روبن هود" (Robinhood)، إلى اقتناص حصة أكبر من السوق، بينما تستعد منصات أخرى، مثل "جيميني" (Gemini) و"بوليش" (Bullish)، لخطط طرح عام أولي محتملة.

وفي هذا السياق، صرح أليكس وودارد، المحلل المتخصص في شركة "أركا" (Arca)، قائلاً: "ما زلنا نرصد مخاطر طويلة الأجل تهدد نمو كوين بيس، وذلك بسبب رسوم المعاملات التي تعتبر مرتفعة مقارنة بالمتوسط بالنسبة للمستثمرين الأفراد، فضلاً عن المنافسة المتزايدة من منصات أخرى مثل روبن هود". وأضاف: "يتعين على كوين بيس أن تتخذ إجراءات فورية لخفض رسوم التداول وتوسيع نطاق منتجاتها من خلال إبرام صفقات للاندماج والاستحواذ، وذلك حتى لا تخسر حصتها السوقية القيمة".

وتُعرف "روبن هود" بأنها منصة رائدة في مجال تداول الأسهم بدون عمولة، ويُقدّر أن متوسط نسبة الاقتطاع التي تفرضها على عمليات التداول يقل بنحو 50% عن نظيرتها لدى "كوين بيس"، وذلك وفقًا لتقديرات "ميزوهو" (Mizuho). أما "كراكن"، فقد اتخذت خطوة استباقية بإضافة خيارات تداول الأسهم وصناديق المؤشرات المتداولة، وذلك في محاولة جادة للحفاظ على تفاعل المستخدمين مع المنصة وجذب المزيد منهم.

وفي الوقت نفسه، شهدت حركة "بتكوين"، وهي العملة الرقمية التي تُمثل عنصرًا أساسيًا في تحديد اتجاه السوق ومستوى نشاط التداول في هذا القطاع، حالة من الاستقرار النسبي.

نمو متباطئ يهدد مكانة "كوين بيس"
تجدر الإشارة إلى أن برايان أرمسترونغ كان له دور محوري في تأسيس "كوين بيس" في عام 2012، وقد نجح في تحويلها إلى أول بورصة للعملات الرقمية يتم إدراجها للتداول العام في البورصة في عام 2021. وقد منح هذا الإنجاز الشركة ميزة تنافسية كبيرة عززت من مكانتها كمنصة رئيسية للمتداولين الأفراد والمؤسسات داخل الولايات المتحدة.

وخلال الربع الثاني من عام 2025، نما حجم إيرادات "كوين بيس" بنسبة متواضعة بلغت 3%، مسجلاً أبطأ وتيرة نمو لها منذ عامين. وفي المقابل، قفزت مبيعات "كراكن" بنسبة ملحوظة بلغت 18%، فيما تضاعفت تقريبًا عائدات "روبن هود" من أنشطة العملات الرقمية لتصل إلى 160 مليون دولار.

وبحسب تقديرات المحللين الماليين، تراجعت حصة "كوين بيس" في السوق العالمية من 5.65% إلى 4.56% قبل أن تشهد تعافيًا طفيفًا في شهر يوليو. ومع ذلك، لا تزال الشركة تحتفظ بحصة سوقية تتجاوز النصف في سوق التداول الفوري داخل الولايات المتحدة، الأمر الذي يعكس حجمها الكبير ومكانتها المتميزة في هذا السوق.

وعلى الرغم من التحديات، لا يزال السياق العام إيجابيًا، إذ يحافظ غالبية المحللين على نظرة إيجابية تجاه سهم "كوين بيس"، مدفوعين بتدفقات مالية ضخمة تقدر بمليارات الدولارات نحو صناديق "بتكوين" المتداولة، بالإضافة إلى الارتفاع القياسي في أحجام تداول العملات المستقرة. وهذا الزخم المتنامي يعني أن "كوين بيس" قد تتمكن من مواصلة تعزيز إيراداتها حتى لو تراجعت حصتها السوقية، التي لطالما اتسمت بالتقلب وعدم الاستقرار.

ومع ذلك، يراود المستثمرين تساؤل هام حول ما إذا كان تسعير السهم قد أخذ هذا النمو المتوقع في الحسبان بالفعل، وما إذا كان بإمكان المنافسين، مثل "روبن هود" و"كراكن"، اقتطاع حصة كافية من السوق لتشكيل ضغط كبير على العلاوة السعرية التي تتمتع بها "كوين بيس".

هوامش الأرباح أم الحصة السوقية؟
أرجعت الشركة تباطؤ أحجام التداول إلى أسباب متعددة، من بينها اتخاذها قرارًا بفرض رسوم على بعض أزواج العملات المستقرة، التي كانت تتداول في السابق بدون رسوم.

وفي هذا الصدد، صرحت أليسا هاس، المديرة المالية لشركة "كوين بيس"، خلال مكالمة إعلان الأرباح التي جرت الأسبوع الماضي، قائلة: "كان هذا القرار خاضعًا بالكامل لإرادتنا وقرارنا المستقل". وأضافت للمحللين: "عند استبعاد أثر انخفاض حجم تداول أزواج العملات المستقرة، يتبين أن إجمالي حجم التداول لدينا كان متماشياً إلى حد كبير مع الأداء العام للسوق الفورية".

وبعبارة أخرى، راهنت الشركة على الحفاظ على هوامش الربح المرتفعة على حساب تعزيز حصتها السوقية، وهو خيار استراتيجي قد يتعرض للاختبار الحقيقي من قبل المنافسين في المستقبل القريب.

وفي رسالة عبر البريد الإلكتروني، صرح ممثل عن "كوين بيس" قائلاً: "إن دخول المزيد من اللاعبين إلى سوق العملات الرقمية يشير بوضوح إلى أن هذا القطاع يتجه بخطى ثابتة نحو الانتشار والنمو. وهذا تطور إيجابي للقطاع ككل، ولكننا في كوين بيس عازمون على الفوز وتحقيق الريادة".

ويعكس هذا التوجه معضلة استراتيجية حقيقية تواجه "كوين بيس"، فإما أن تتخذ قرارًا بخفض رسومها وتُضحي بهوامش أرباحها، أو أن تواصل التمسك بهيكل الرسوم الحالي وتخاطر بفقدان شريحة كبيرة من المتداولين. ومع ذلك، نجحت الشركة في الحفاظ على رسومها ثابتة أو حتى زيادتها في بعض الأحيان على مدار السنوات الماضية، متحدّية בכך تحذيرات المشككين والمتخوفين.

وتخطط "كوين بيس" لإطلاق خدمات تداول الأسهم بهدف تعزيز ارتباطها بعملائها وتلبية احتياجاتهم المتنوعة.

وفي هذا السياق، قال جون تودارو، المحلل المتخصص في شركة "نيدهام آند كو" (Needham & Co): "يتعين على البورصات أن تتحول إلى منصات شاملة تقدم كافة الخدمات المالية في مكان واحد، ولكن جميع المنافسين يتبعون نفس الاستراتيجية، الأمر الذي يجعل المنافسة أكثر شراسة وتحديًا".

مخاطر الاعتماد على التداول
بالنسبة للمستثمرين، يتجاوز الأمر مجرد نتائج أرباح مخيبة للآمال، فلطالما كان سهم "كوين بيس" خيارًا مفضلًا لدى كبار مديري الأصول، مثل صناديق التقاعد والمستشارين الماليين والصناديق الاستثمارية الحذرة، كونه يوفر وسيلة "أكثر أمانًا" للتعرض لسوق العملات الرقمية من خلال شركة منظمة ومدرجة في البورصة.

وعلى الرغم من قناعة دان دوليف، المحلل المتخصص في "ميزوهو"، بأن "كوين بيس" قادرة على مواصلة أعمالها دون الحاجة إلى خفض رسومها، فإنه يرى أن "الاعتماد الكامل على تداول العملات الرقمية يمثل خطرًا قائمًا في كلتا الحالتين".

وقد أدى هذا الاعتماد إلى ما وصفه تودارو بأنه "نمو إيرادات متقلب وغير مستقر، يتمثل في سنوات من الأرباح الكبيرة تقابلها فترات من الأداء المتواضع أو حتى السلبي".

ومع ذلك، تتمتع "كوين بيس" بقدرات مالية كبيرة وموارد ضخمة، إذ تحتفظ بأكثر من 9 مليارات دولار نقدًا، فضلاً عن الإيرادات الهائلة الناتجة عن شراكتها مع مُصدر العملات المستقرة "سيركل إنترنت غروب" (Circle Internet Group). كما تدير الشركة خدمات الحفظ، أي تأمين أصول العملات المشفرة لصالح مستثمرين كبار مثل صناديق "بتكوين" المتداولة، الأمر الذي يربطها بشكل مباشر بتدفقات رؤوس الأموال من "وول ستريت".

وتسعى الشركة جاهدة إلى التحول إلى "بورصة شاملة"، حيث أضافت مؤخرًا عقودًا آجلة دائمة في السوق الأميركية، واستحوذت على منصة "ديربيت" (Deribit) المتخصصة في تداول خيارات العملات المشفرة، كما تخطط لتقديم خدمات تداول الأسهم وحتى أسواق التوقعات ضمن منصتها المتكاملة.

المنافسة تتسارع محلياً وعالمياً
في المقابل، لا تُظهر المنصات المنافسة أية بوادر على التراجع أو الاستسلام. فبالإضافة إلى "كراكن" و"روبن هود"، عاودت منصة "أو كيه إكس" (OKX) الدخول إلى السوق الأميركية بقوة. وبحسب تقارير "بلومبرغ"، فقد درست "بينانس"، على الرغم من التحديات القانونية التي واجهتها سابقًا، الدخول في شراكة استراتيجية مع شركة "وورلد ليبرتي فايننشال" (World Liberty Financial)، وهي إحدى المبادرات المرتبطة بعائلة ترمب في مجال العملات المشفرة.

وفي هذا الصدد، قال ساكشام ديوان، محلل الأبحاث المتخصص في "كوين ديسك داتا" (CoinDesk Data): "كانت كل من بينانس وإتش تي إكس من أبرز المستفيدين من نمو الحصة السوقية للتداول الفوري عالمياً خلال هذا العام".

وأضاف: "أما في الولايات المتحدة، فقد سجلت كراكن أكبر زيادة في حصتها السوقية للتداول الفوري، على الرغم من أن كوين بيس لا تزال تهيمن على الحصة الأكبر بما يتجاوز 50%".

تقييم "كوين بيس" يواجه ضغوطاً سوقية
يُتداول سهم "كوين بيس" حاليًا عند مضاعف ربحية مستقبلي يبلغ نحو 44 مرة، وهو تقييم أعلى من نظيره لدى البورصات التقليدية، ولكنه يظل دون مستوى "روبن هود" البالغ 65 مرة، وأقل بكثير من التقييم المرتفع الذي تحظى به "سيركل".

وكانت شركة "إتش سي وينرايت" (H.C. Wainwright)، التي خفضت تصنيف سهم "كوين بيس" في شهر يوليو الماضي، قد نبهت إلى أن تصاعد المنافسة قد يشكل ضغطًا كبيرًا على علاوة التقييم التي يتمتع بها سهم الشركة.

وفي المقابل، يتوقع أوين لاو، المحلل المتخصص في شركة "أوبنهايمر" (Oppenheimer)، انتعاشًا ملحوظًا في إيرادات الشركة بنسبة 46% خلال الربع الثالث، ويرى أن تراجع السهم الأخير يشكل فرصة استثمارية مغرية للشراء.

وقال لاو: "لا أعتقد أن تقييم سهم كوين بيس مبالغ فيه، فهو يُتداول بخصم كبير مقارنة مع روبن هود وسيركل. وأعتقد أنه إذا واصلت الشركة تحسين نتائجها على مستوى الإيرادات والأرباح، فإن ذلك سيعزز جاذبية السهم ويرفع من قيمته السوقية".

ولكن هذا التفاؤل يبقى مشروطًا بقدرة "كوين بيس" على الحفاظ على هوامش ربحها في سوق يشهد تحول أنشطة التداول إلى سلعة تقليدية، بينما يستعد المنافسون لخفض التكاليف مجددًا وتقديم خدمات بأسعار تنافسية.